كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



النعمة الثانية: من النعم التي أظهرها الله تعالى على وجه الأرض هي أنه تعالى أجرى الأنهار على وجه الأرض واعلم أنه حصل هاهنا بحثان:
البحث الأول: أن قوله: {وَأَنْهَارًا} معطوف على قوله: {وألقى في الأرض رَوَاسِىَ} والتقدير وألقى رواسي وأنهارًا.
وخلق الأنهار لا يبعد أن يسمى بالإلقاء فيقال: ألقى الله في الأرض أنهارًا كما قال: {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي} [قَ: 7]، والإلقاء معناه الجعل ألا تر أنه تعالى قال في آية أخرى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وبارك فِيهَا} [فصلت: 10]، والإلقاء يقارب الإنزال، لأن الإلقاء يدل على طرح الشيء من الأعلى إلى الأسفل، إلا أن المراد من هذا الإلقاء الجعل والخلق قال تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى} [طه: 39].
البحث الثاني: أنه ثبت في العلوم العقلية أن أكثر الأنهار إنما تتفجر منابعها في الجبال، فلهذا السبب لما ذكر الله تعالى الجبال أتبع ذكرها بتفجير العيون والأنهار.
النعمة الثالثة: قوله: {وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وهي أيضًا على قوله: {وألقى في الأرض رَوَاسِىَ} والتقدير: وألقى في الأرض سبلًا ومعناه: أنه تعالى أظهرها وبينها لأجل أن تهتدوا بها في أسفاركم ونظيره قوله تعالى في آية أخرى: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} [طه: 53]، وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي لكي تهتدوا.
واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه أظهر في الأرض سبلًا معينة ذكر أنه أظهر فيها علامات مخصوصة حتى يتمكن المكلف من الاستدلال بها فيصل بواسطتها إلى مقصوده فقال: {وعلامات} وهي أيضًا معطوفة على قوله: {فِى الأرض رَوَاسِىَ} والتقدير: وألقى في الأرض رواسي وألقى فيها أنهارًا وسبلًا وألقى فيها علامات والمراد بالعلامات معالم الطرق وهي الأشياء التي بها يهتدي، وهذه العلامات هي الجبال والرياح ورأيت جماعة يشمون التراب وبواسطة ذلك الشم يتعرفون الطرق.
قال الأخفش تم الكلام عند قوله: {وعلامات} وقوله: {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} كلام منفصل عن الأول، والمراد بالنجم الجنس كقولك: كثر الدرهم في أيدي الناس.
وعن السدي هو الثريا، والفرقدان، وبنات نعش، والجدي، وقرأ الحسن: {وبالنجم} بضمتين وبضمة فسكون، وهو جمع نجم كرهن ورهن والسكون تخفيف.
وقيل: حذف الواو من النجم تخفيفًا.
فإن قيل: قوله: {أَن تَمِيدَ بِكُمْ} خطاب الحاضرين وقوله: {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} خطاب للغائبين فما السبب فيه؟
قلنا: إن قريشًا كانت تكثر أسفارها لطلب المال، ومن كثرت أسفاره كان علمه بالمنافع الحاصلة من الاهتداء بالنجوم أكثر وأتم فقوله: {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} إشارة إلى قريش للسبب الذي ذكرناه، والله أعلم.
واختلف المفسرون فمنهم من قال قوله: {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} مختص بالبحر، لأنه تعالى لما ذكر صفة البحر وما فيه من المنافع بين أن من يسيرون فيه يهتدون بالنجم، ومنهم من قال: بل هو مطلق يدخل فيه السير في البر والبحر وهذا القول أولى، لأنه أعم في كونه نعمة ولأن الاهتداء بالنجم قد يحصل في الوقتين معًا، ومن الفقهاء من يجعل ذلك دليلًا على أن المسافر إذا عميت عليه القبلة فإنه يجب عليه أن يستدل بالنجوم وبالعلامات التي في الأرض، وهي الجبال والرياح، وذلك صحيح، لأنه كما يمكن الاهتداء بهذه العلامات في معرفة الطرق والمسالك فكذلك يمكن الاستدلال بها في معرفة طلب القبلة.
واعلم أن اشتباه القبلة إما أن يكون بعلامات لائحة أو لا يكون، فإن كانت لائحة وجب أن يجب الاجتهاد ويتوجه إلى حيث غلب على الظن أنه هو القبلة، فإن تبين الخطأ وجب الإعادة، لأنه كان مقصرًا فيما وجب عليه، وإن لم تظهر العلامات فههنا طريقان:
الطريق الأول: أن يكون مخيرًا في الصلاة إلى أي جهة شاء لأن الجهات لما تساوت وامتنع الترجيح لم يبق إلا التخيير.
والطريق الثاني: أن يصلي إلى جميع الجهات فحينئذ يعلم بيقين أنه خرج عن العهدة وهذا كما يقوله الفقهاء: فيمن نسي صلاة لا يعرفها بعينها أن الواجب عليه في القضاء أن يأتي بالصلوات الخمس ليكون على يقين من قضاء ما لزمه، ومنهم من يقول: الواجب منها واحدة فقط وهذا غلط لأنه لما لزمه أن يفعل الكل كان الكل واجبًا وإن كان سبب وجوب كل هذه الصلوات فوت الصلاة الواحدة، والله أعلم.
{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)}.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الدالة على وجود القادر الحكيم على الترتيب الأحسن والنظم الأكمل وكانت تلك الدلائل كما أنها كانت دلائل، فكذلك أيضًا كانت شرحًا وتفصيلًا لأنواع نعم الله تعالى وأقسام إحسانه أتبعه بذكر إبطال عبادة غير الله تعالى والمقصود أنه لما دلت هذه الدلائل الباهرة، والبينات الزاهرة القاهرة على وجود إله قادر حكيم، وثبت أنه هو المولي لجميع هذه النعم والمعطي لكل هذه الخيرات فكيف يحسن في العقول الاشتغال بعبادة موجود سواه لاسيما إذا كان ذلك الموجود جمادًا لا يفهم ولا يقدر، فلهذا الوجه قال بعد تلك الآيات: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} والمعنى: أفمن يخلق هذه الأشياء التي ذكرناها كمن لا يخلق بل لا يقدر ألبتة على شيء أفلا تذكرون فإن هذا القدر لا يحتاج إلى تدبر وتفكر ونظر.
ويكفي فيه أن تتنبهوا على ما في عقولكم من أن العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم، وأنتم ترون في الشاهد إنسانًا عاقلًا فاهمًا ينعم بالنعمة العظيمة، ومع ذلك فتعلمون أنه يقبح عبادته فهذه الأصنام جمادات محضة، وليس لها فهم ولا قدرة ولا اختيار فكيف تقدمون على عبادتها، وكيف تجوزون الاشتغال بخدمتها وطاعتها.
المسألة الثانية:
المراد بقوله: {مَّن لاَّ يَخْلُقُ} الأصنام، وأنها جمادات فلا يليق بها لفظة {من} لأنها لأولي العلم.
وأجيب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن الكفار لما سموها آلهة وعبدوها، لا جرم أجريت مجرى أولي العلم ألا ترى إلى قوله على أثره: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ}.
والوجه الثاني: في الجواب أن السبب فيه المشاكلة بينه وبين من يخلق.
والوجه الثالث: أن يكون المعنى أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف من لا علم عنده كقوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} يعني أن الآلهة التي تدعونها حالهم منحطة عن حال من لهم أرجل وأيد وآذان وقلوب، لأن هؤلاء أحياء وهم أموات فكيف يصح منهم عبادتها، وليس المراد أنه لو صحت لهم هذه الأعضاء لصح أن يعبدوا.
فإن قيل: قوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} المقصود منه إلزام عبدة الأوثان، حيث جعلوا غير الخالق مثل الخالق في التسمية بالإله، وفي الاشتغال بعبادتها، فكان حق الإلزام أن يقال: أفمن لا يخلق كمن يخلق.
والجواب: المراد منه أن من يخلق هذه الأشياء العظيمة ويعطي هذه المنافع الجليلة كيف يسوى بينه وبين هذه الجمادات الخسيسة في التسمية باسم الإله، وفي الاشتغال بعبادتها والإقدام على غاية تعظيمها فوقع التعبير عن هذا المعنى بقوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ}.
المسألة الثالثة:
احتج بعض أصحابنا بهذه الآية على أن العبد غير خالق لأفعال نفسه فقال: إنه تعالى ميز نفسه عن سائر الأشياء التي كانوا يعبدونها بصفة الخالقية لأن قوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} الغرض منه بيان كونه ممتازًا عن الأنداد بصفة الخالقية وأنه إنما استحق الإلهية والمعبودية بسبب كونه خالقًا، فهذا يقتضي أن العبد لو كان خالقًا لبعض الأشياء لوجب كونه إلهًا معبودًا، ولما كان ذلك باطلًا علمنا أن العبد لا يقدر على الخلق والإيجاد قالت المعتزلة الجواب: عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن المراد أفمن يخلق ما تقدم ذكره من السموات والأرض والإنسان والحيوان والنبات والبحار والنجوم والجبال كمن لا يقدر على خلق شيء أصلًا، فهذا يقتضي أن من كان خالقًا لهذه الأشياء فإنه يكون إلهًا ولم يلزم منه أن من يقدر على أفعال نفسه أن يكون إلهًا.
والوجه الثاني: أن معنى الآية: أن من كان خالقًا كان أفضل ممن لا يكون خالقًا، فوجب امتناع التسوية بينهما في الإلهية والمعبودية، وهذا القدر لا يدل على أن كل من كان خالقًا فإنه يجب أن يكون إلهًا.
والدليل عليه قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} [الأعراف: 195]، ومعناه: أن الذي حصل له رجل يمشي بها يكون أفضل من الذي حصل له رجل لا يقدر أن يمشي بها، وهذا يوجب أن يكون الإنسان أفضل من الصنم، والأفضل لا يليق به عبادة الأخس، فهذا هو المقصود من هذه الآية، ثم إنها لا تدل على أن من حصل له رجل يمشي بها أن يكون إلهًا، فكذلك هاهنا المقصود من هذه الآية بيان أن الخالق أفضل من غير الخالق، فيمتنع التسوية بينهما في الإلهية والمعبودية، ولا يلزم منه أن بمجرد حصول صفة الخالقية يكون إلهًا.
والوجه الثالث في الجواب: أن كثيرًا من المعتزلة لا يطلقون لفظ الخالق على العبد.
قال الكعبي في تفسيره إنا لا نقول: إنا نخلق أفعالنا: قال ومن أطلق ذلك فقد أخطأ إلا في مواضع ذكرها الله تعالى كقوله: {وَإِذَ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} [المائدة: 110]، وقوله: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14].
واعلم أن أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد، حتى أن أبا عبد الله البصير بالغ وقال: إطلاق لفظ الخالق على العبد حقيقة وعلى الله مجاز، لأن الخالق عبارة عن التقدير، وذلك عبارة عن الظن والحسبان، وهو في حق العبد حاصل وفي حق الله تعالى محال.
واعلم أن هذه الأجوبة قوية والاستدلال بهذه الآية على صحة مذهبنا ليس بقوي، والله أعلم.
أما قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى:
اعلم أنه تعالى لما بين بالآية المتقدمة أن الاشتغال بعبادة غير الله باطل وخطأ بين بهذه الآية أن العبد لا يمكنه الإتيان بعبادة الله تعالى وشكر نعمه والقيام بحقوق كرمه على سبيل الكمال والتمام، بل العبد وإن أتعب نفسه في القيام بالطاعات والعبادات، وبالغ في شكر نعمة الله تعالى فإنه يكون مقصرًا، وذلك لأن الاشتغال بشكر النعم مشروط بعلمه بتلك النعم على سبيل التفصيل والتحصيل، فإن من لا يكون متصورًا ولا مفهومًا ولا معلومًا امتنع الاشتغال بشكره، إلا أن العلم بنعم الله تعالى على سبيل التفصيل غير حاصل للعبد، لأن نعم الله تعالى كثيرة وأقسامها وشعبها واسعة عظيمة، وعقول الخلق قاصرة عن الإحاطة بمباديها فضلًا عن غاياتها وأنها غير معلومة على سبيل التفصيل، وما كان كذلك امتنع الاشتغال بشكره على الوجه الذي يكون ذلك الشكر لائقًا بتلك النعم.
فهذا هو المفهوم من قوله: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} يعني: أنكم لا تعرفونها على سبيل التمام والكمال، وإذا لم تعرفوها امتنع منكم القيام بشكرها على سبيل التمام والكمال، وذلك يدل على أن شكر الخالق قاصر عن نعم الحق، وعلى أن طاعات الخلق قاصرة عن ربوبية الحق وعلى أن معارف الخلق قاصرة عن كنه جلال الحق، ومما يدل قطعًا على أن عقول الخلق قاصرة عن معرفة أقسام نعم الله تعالى أن كل جزء من أجزاء البدن الإنساني لو ظهر فيه أدنى خلل لتنغص العيش على الإنسان، ولتمنى أن ينفق كل الدنيا حتى يزول عنه ذلك الخلل.
ثم إنه تعالى يدبر أحوال بدن الإنسان على الوجه الأكمل الأصلح، مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك الجزء ولا بكيفية مصالحه ولا بدفع مفاسده، فليكن هذا المثال حاضرًا في ذهنك، ثم تأمل في جميع ما خلق الله في هذا العالم من المعادن والنبات والحيوان، وجعلها مهيأة لانتفاعك بها، حتى تعلم أن عقول الخلق تفنى في معرفة حكمة الرحمن في خلق الإنسان فضلًا عن سائر وجوه الفضل والإحسان.
فإن قيل: فلما قررتم أن الاشتغال بالشكر موقوف على حصول العلم بأقسام النعم، ودللتم على أن حصول العالم بأقسام النعم محال أو غير واقع، فكيف أمر الله الخلق بالقيام بشكر النعم؟
قلنا: الطريق إليه أن يشكر الله تعالى على جميع نعمه مفصلها ومجملها.
فهذا هو الطريق الذي به يمكن الخروج عن عهدة الشكر.
والله أعلم.
المسألة الثانية:
قال بعضهم: إنه ليس لله على الكافر نعمة وقال الأكثرون: لله على الكافر والمؤمن نعم كثيرة.
والدليل عليه: أن الإنعام بخلق السموات والأرض والإنعام بخلق الإنسان من النطفة، والإنعام بخلق الأنعام وبخلق الخيل والبغال والحمير، وبخلق أصناف النعم من الزرع والزيتون والنخيل والأعناب، وبتسخير البحر ليأكل الإنسان منه لحمًا طريًا ويستخرج منه حلية يلبسها كل ذلك مشترك فيه بين المؤمن والكافر، ثم أكد تعالى ذلك بقوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} وذلك يدل على أن كل هذه الأشياء نعم من الله تعالى في حق الكل، وهذا يدل على أن نعم الله واصلة إلى الكفار، والله أعلم.
أما قوله: {إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} اعلم أنه تعالى قال في سورة إبراهيم: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، وقال ههنا: {إن الله لغفور رحيم} والمعنى: أنه لما بين أن الإنسان لا يمكنه القيام بأداء الشكر على سبيل التفصيل: قال: {إن الله لغفور رحيم} أي غفور للتقصير الصادر عنكم في القيام بشكر نعمه، رحيم بكم حيث لم يقطع نعمه عليكم بسبب تقصيركم. اهـ.